كيف تقتل شبكة لامركزية (مثل العالم الاتحادي Fediverse)

نُشر 
 

هذا المقال مترجم عن How to Kill a Decentralised Network (such as the Fediverse)، المنشور . وقد نشرت هذه الترجمة أيضا في مجتمع أسس.

نحن في عام ٢٠٢٣م. كل الإنترنت في يد إمبراطورية «جافام» (جوجل، أمازون، فيسبوك، أبل، ميكروسوفت). كله؟ في الحقيقة، ليس كله. لأن بعض القرى الصغيرة ما زالت تقاوم القهر. وبعض هذه القرى بدأت تتكتل، مكونةً «العالم الاتحادي Fediverse».

ومع الاختلافات في شأن تويتر وريديت، بدأ «العالم الاتحادي» يشتهر ويجذب الانتباه. وبدأ الناس يستخدموه بجد. وبدأت الإمبراطورية تلاحظ.

# الرأسماليون ضد المنافسة 

كما قال «پيتر تيل» (Peter Thiel)، وهو من أهم المستثمرين في فيسبوك، قال: «إنما المنافسة للخائبين». نعم، أولئك المنافقون الذين يُظهرون الإيمان بأن «السوق دائما على حق» لا يريدون سوقًا هم فيه؛ بل يريدون احتكارا. وشركة فيسبوك منذ نشأتها تحرص أشد الحرص على وأد كل منافسة. وأسهل طريقة لهذا هو شراء الشركات التي قد تنافسها يومًا ما. فقد اشترت إنستغرام وواتساب وغيرهما لمجرد أنهما جذبا الناس وقد يغطيا على فيسبوك.

ولكن لا يمكن شراء العالم الاتحادي. فهو جماعة ودية من الخواديم التي تتواصل فيما بينها بميفاق واحد (بروتوكول ActivityPub)، والتي يمكنها حتى أن تستعمل برامج مختلفة (أشهرها Mastodon، لكن يوجد أيضا Pleroma, Pixelfed, Peertube, WriteFreely, Lemmy وغيرهم العديد).

لا تستطيع شراء شبكة لامركزية!

ولكن توجد طريقة أخرى: اجعلها مما لا يُعبأ به. هذا بعينه ما فعلته جوجل مع XMPP.

# كيف انضمت جوجل إلى اتحاد XMPP 

في نهاية القرن العشرين الميلادي، كانت برامج المراسلة الفورية هي آخر صيحة. كان ICQ من أوائل البرامج التي اشتهرت جدا، ثم تبعه مرسال MSN، والذي كان «تيك توك» عصره: عالم يقضي الصغار فيه الساعات والأيام بعيدًا عن الكبار.

ولأن MSN كان من ميكروسوفت، فقد أرادت جوجل المنافسة أيضا، فأتاحت Google Talk في ٢٠٠٥م، بجعله في واجهة Gmail. تذكّر أن في ذلك الوقت لم تظهر بعدُ الهواتف الذكية الحديثة، وكانت تطبيقات الويب ما تزال نادرة. فكانت البرامج تحتاج إلى تثبيتها على الحاسوب، وكانت واجهة ويب Gmail ابتكارًا ثوريًا. ومع أن MSN قد صار جزءًا من نظام ويندوز وتكاد تستحيل إزالته، إلا أن بناء المراسلة الفورية في واجهة ويب Gmail جعلها أقرب للمستخدمين حتى من البرامج المدمجة في نظام التشغيل.

وأثناء صراع جوجل وميكروسوفت على الهيمنة، كان أنصار البرمجيات الحرة يحاولون صناعة مراسلة فورية لامركزية. ومثل البريد الإلكتروني، كان XMPP ميفاقًا اتحاديًا (أي بروتوكولًا فدراليًّا): تستطيع الخواديم المختلفة التحدثَ مع بعضها بميفاق، ويستخدم كل مستخدم برنامج عميل ليتصل بخادوم واحد معين، وعندئذٍ يستطيع هذا المستخدم التواصل مع أي مستخدم على أي خادوم وباستخدام أي برنامج عميل. وهكذا يعمل ميفاق ActivityPub أيضا، أي العالم الاتحادي Fediverse.

ثم في عام ٢٠٠٦م، صار Google Talk متوافقا مع XMPP. وكانت جوجل تهتم بميفاق XMPP جديًّا. وفي ٢٠٠٨م، رنّ هاتفي أثناء العمل، وأخبرني المتصل: «ألو، أنا من جوجل ونريد توظيفك». وبعد عدة اتصالات علمت أنهم عرفوني من قائمة بريد متطوري الميفاق (XMPP-dev) وكانوا يبحثون عن مديري أنظمة لخواديم XMPP.

إذًا فجوجل فعلا تؤمن بالاتحاد (الفدرالي) وتسعى له. ما أجمل هذا الصنيع! هذا يعني أن كل مستخدم Gmail صار فجأةً مستخدم XMPP أيضا. هذا لا يكون إلا خيرا لـXMPP، صحيح؟ لقد كنت نشوان من سعادتي.

# كيف قتلت جوجل XMPP 

طبعا لم تكن الحقيقة حلوة كما تصورتُ. أولا، رغم تعاون جوجل على تطوير معيار XMPP، إلا أنها كانت تصنع تنفيذها الخاص المغلق الذي لا يستطيع أحد مراجعته. ثم ظهر أنها لم تكن دوما تراعي الميفاق التي كانت تطوره؛ فلم ينفذوا كل شيء فيه. هذا أجبر تطوير XMPP على الإبطاء، من أجل التوافق. الميزات الجديدة الحسنة لم تكن تُنفّذ أو تُستخدم في برامج عملاء XMPP لأنها لم تكن متوافقة مع Google Talk (مثلا الصور التشخيصية avatars تأخرت أمدًا طويلًا قبل أن تُتاح في ميفاق XMPP). أحيانا يتعطل التواصل الاتحادي: ينقطع التواصل بين خواديم جوجل وخواديم XMPP العادية ساعات أو حتى أيام. لقد صار مجتمع XMPP رقباء على خواديم جوجل ومنقّحين لها، وينشرون الخلل والتعطل (وقد فعلتُ ذلك عدة مرات، والذي ربما كان سببًا في الوظيفة).

ولأن مستخدمي Talk أكثر كثيرا من مستخدمي «XMPP الحقيقي»، فلم يكن بالإمكان «ألا نبالي بمستخدمي توك». فالمستخدمون الجدد الذي يكتشفون XMPP بغير أن يكونوا مستخدمي توك، كانت تجربتهم محبطة مغيظة، لأن معظم جهات اتصالهم كانوا مستخدمي توك. فقد ظنوا أنهم يستطيعوا التواصل معهم بسهولة، لكن كل ما وجدوه هو نسخة متدهورة مما كان لديهم عند استخدامهم جوجل توك نفسه. كانت أي شلة XMPP عادية تتكون في الأساس من مستخدمي توك، ثم قليل من الجيكس.

ثم في ٢٠١٣م، أدركت جوجل أن معظم التفاعل عبر XMPP يحدث في الأساس بين مستخدمي جوجل توك. فلم يعودوا يبالون بمراعاة ميفاق ليس في أيدهم بكامله. فقرروا الانسحاب وأعلنوا أنهم لن يستمروا في الاتحاد بعدئذٍ. ثم شرعوا في سعي طويل لصناعة برامج مراسلة، بادئين بـHangout (ثم Allo، ثم Duo، ثم تركت العد وراءهم.)

وكالمتوقع، لم يحرك مستخدموهم ساكنا. بل لم يلاحظ منهم أحد. في أسوأ الأحوال، صارت حالة بعض أصدقائهم «غير متصل». لا غير. لكن بالنسبة لاتحاد XMPP كان الأمر هو اختفاء معظم المستخدمين فجأة. حتى شديدو التعصب لـXMPP، مثل خادمكم، اضطروا لإنشاء حسابات على جوجل لإبقاء التواصل مع الأصدقاء. تذكّر: لم نكن بالنسبة لهم إلا جهات «غير متصلة». أي أنه ذنبنا.

ورغم أن XMPP ما زال موجودا اليوم ومجمتعه نشيط جدا، إلا أنه لم يتعافَ قَط من هذه القصفة. توقعات كبيرة للغاية مع انضمام جوجل ثم إحباط عظيم وسقوط مكتوم إلى هاوية النسيان. صار XMPP مغمورا. بل صار في شدة الانغمار حتى إن وقت صيحة منصات المحادثات الجماعية (سلاك، دسكورد)، وجدنا مجتمع البرمجيات الحرة يعيد اختراعه (Matrix) حتى ينافس، ولكن المحادثات الجماعية كانت ممكنة بالفعل مع XMPP. (إخلاء ذمة: لم أدرس ميفاق متركس فلا أعلم اختلافاته التقنية مع XMPP. وإنما أؤمن بأنه يحل نفس المشكلة التي يحلها XMPP وينافس معه في نفس المجال.)

هل كان XMPP سيكون مختلفا اليوم لو لم تنضم إليه جوجل مطلقًا أو لم نعتبرها جزءًا منه؟ لا أحد يعلم. لكني مقتنع بأنه كان سيكبر ببطئ وربما بصحة جيدة، وأنه كان سيكون أكبر وأهم مما هو عليه اليوم، وأنه كان سيكون الاختيار الأول في منصات التواصل اللامركزي. وأمر واحد مؤكد: لو لم تنضم جوجل، لما كان XMPP أسوء مما هو عليه اليوم.

# ليست أول مرة: حيل ميكروسوفت 

لم يكن جديدًا ما فعلته جوجل بـXMPP، ففي ١٩٩٨م، كتب مهندس ميكروسوفت Vinod Vallopllil بلفظ صريح شيئا عنوانه ”Blunting OSS attacks“ («إتلاف هجمات البرمجيات المفتوحة المصدر»)، والذي يقترح فيه «عدم جعل الموافيق والتطبيقات سلعًا […]. فبتوسيع هذه الموافيق وإنشاء موافيق جديدة، يمكننا منع البرمجيات المفتوحة المصدر من الدخول إلى السوق».

وقد نفذت ميكروسوفت هذه النظرية عند إطلاق ويندوز ٢٠٠٠، والذي دعم ميفاق الأمان Kerberos. ثم وسّعت هذا الميفاق. وسمحت بتزيل توصيف هذا التوسيع مجانًا، بشرط قبول رخصة تمنعك من تنفيذه. فبمجرد أن تضغط على زر «موافق»، لم تعد تستطيع العمل على أي نسخة مفتوحة المصدر من Kerberos. فقد كان الهدف هو القتل الصريح للمشاريع الشبكية المنافسة مثل Samba.

وقد أخبر بهذه الحكاية الكاتب Glyn Moody في كتابه ”Rebel Code“ («الكود الثائر»)، وهي توضح أن قتل المشاريع المفتوحة المصدر واللامركزية إنما هي أهداف مقصودة وواعية. فلم تحدث أبدا بعشوائية، ولم تحدث أبدا لمجرد سوء حظ.

وقد استخدمت ميكروسوفت حيلةً مماثلةً لضمان هيمنتها في سوق التطبيقات المكتبية، بجعل ميكروسوفت أوفيس يستخدم صيغًا احتكارية. (وصيغ الملفات تعتبر موافيق لتبادل البيانات.) فعندما تحسنت البدائل (OpenOffice ثم LibreOffice) في التعامل مع صيغ doc/xls/ppt، أطلقت ميكروسوفت صيغة جديدة ادعت أنها «مفتوحة ومعيارية». وكانت هذه الصيغة، عن قصد، شديدة التعقيد (توصيفها عشرون ألف صفحة!)، والأهم من ذلك: خاطئة. نعم، فبعض العلل في التوصيف تعني أن البرنامج الذي ينفذ توصيف صيغة OOXML بتمامه سيختلف عن ميكروسوفت أوفيس.

وكانت تلك العلل، مع ضغوط سياسية، سببًا في تقهقر مدينة ميونخ عن هجرتها إلى لينكس. إذًا فنعم، مكيدة الحرب تلك تنجح فعلا. واليوم ما زالت صيغ docx/xlsx/pptx هي العرف السائد لهذا السبب. المصدر: لقد كنت هناك، وقد كلفت مدينة ميونخ مَن كلفني بجعل عرض تلك الصيغ في LibreOffice أقرب من ميكروسوفت أوفيس وليس من التوصيف.

حتى إن لهذه الحيلة مقالة على ويكيبديا الإنجليزية.

من المترجم: وانظر أيضا الفقرة قبل الأخيرة من مقالة Fire And Motion لأحد كبار المبرمجين الذي عمل في ميكروسوفت ومن مؤسسي StackOverflow.

وانظر أيضا كيف أخمدت ميكروسوفت أنظمة غنو/لينكس المكتبية بتهشيم وحدة سطح المكتب غنوم.

# ميتا والعالم الاتحادي 

من لا يتعلم من التاريخ، يكرر مآسيه. فهذا بعينه الذي يحدث اليوم بين ميتا Meta والعالم الاتحادي Fediverse.

فقد أُشيع أن ميتا ستصير «متوافقة مع العالم الاتحادي». أي ستستطيع متابعة الناس على إنستغرام من حساب Mastodon.

لا أعلم إن كانت تلك الشائعات صادقة أم لا، بفرض أن ميتا قد تفكر من الأساس في مثل هذا الصنيع. ولكنّ أمرًا واحدًا تعلمته من تجربتي الشخصية مع XMPP وOOXML: إن انضمت ميتا إلى العالم الاتحادي، فلن يستفيد أحد غيرها. بل إن ردود الأفعال تُظهر أنها بدأت تفوز فعلا، فقد انقسم العالم الاتحادي أيحظرون ميتا أم لا. فإن حدث، فسيعني هذا أن العالم الاتحادي سيصير مفتتًا إلى شيعتين مُخيّبًا لآمال المستخدمين الجدد.

تحديث: أكد واحد من مسؤولي Mastodon هذه الشائعات، فقد قال kev من fosstodon.org بأن ميتا تواصلت معه من أجل مقابلة سرية. وكان رده أحسن ما يكون: رفض بلباقة، ثم، وهو المهم، أنه نشر الرسالة ليكون صريحا مع مستخدميه. شكرا يا kev!

رسالة ميتا إلى Kev من Fosstodon ورده.

أعلم أننا جميعا نحلم بأن تكون أسرتنا وأصدقاؤنا في العالم الاتحادي حتى نتجنب الشبكات الاحتكارية برمتها. لكن العالم الاتحادي لا يسعى إلى الهيمنة على السوق ولا إلى الربح. ولا إلى النمو. بل يريد إتاحة مكان للحرية. الذين ينضمون إليه هم الذين يسعون إلى الحرية. فإن لم يكن الناس راغبين في الحرية أو مستعدين لها، فلا بأس. فلهم أن يبقوا على المنصات الاحتكارية. فليس لنا أن نُكرِه الناس على العالم الاتحادي. ليس لنا أن نسعى لضم كل من نستطيع وبأي تكلفة. يجب أن نكون صادقين وأن نتأكد من أن الناس ينضمون إلى العالم الاتحادي لأنهم يشاركونه مبادئه.

لكن المنافسة الهوجاء مع ميتا في «النمو بأي تكلفة» ستخسّرنا حتما. فهي أستاذة هذه اللعبة، وتسعى أن تجلب الناس جميعا إلى ملعبها، لينافس بعضهم بعضا بالأسلحة التي تبيعها ميتا.

لن يُفلح العالم الاتحادي إلا بأن يُرابط في موقفه، ويتحدث عن الحرية والأخلاق، ويفتح نقاشات حرة بلا اتّجار ولا تجسس، ويقرّ بأن الهدف ليس الانتصار، وليس احتضان الشبكات الأخرى، بل الهدف أن يبقى أداة، أداة مخصصة لإتاحة مكان فيه حرية للناس الذين يريدون التواصل، وهو شيء لن توفره شركة تجارية أبدا.

(صورة المقال من David Revoy.)